جفاءٌ لا إفتاءُ

غريب أن ينسلخ الفقيه عن مقامه السامي وينخلع المفتي عن وسامه العالي حيث التوقيع عن الله ورسوله والاستخلاف عن المعصوم ﷺ في البلاغ والتبليغ عنه المدلول عنه بقوله تعالى (هذا بلاغ للناس ولينذروا به).

غريب أن يستحيل المتبوع تابعا والحاكم محكوما والمقرِّر مبررا

عجيب حين تكون منطلقات الموقّع عن الله اقتناص تخريجات واهية وتصيُّد روايات هاوية واستكشاف كيفيات نابية منسوبة لأقوام لو عرفوا أنها لهم لقضوا العجب.

ولا غرو أن يُجمَع في المسألة الواحدة بين أكثر من مذهب أو قول على فرض جواز التلفيق؛ ومعلوم قول المتشرعة فيه،

لكن خرج الأمر من التكييف إلى التكلّف

فالعقد معاوضة محضة، قالوا هي إلى التبرع أقرب، هذا باطل عاطل عن النظر، هذا يراد لغيره تجويز الغرر في التبرعات.

الرجل يدفع أمواله وعُدَّ هذا تبرعا وهبة وفي المنطق قيل (المُحسَّات لا إنكار فيها) وفي الأصول قيل (وصف الحاضر لغو).

صيّروا الفاحش المتفاحِش من الغرر يسيرا متسامَحاًفيه، لا استقرار في الثمن ولا في المثمن ناهيك عن غموض في الأجل إنه غرر مركب.

وخَلِيلُنا يقول في مختصره (واغتفر غرر يسير للحاجة لم يقصد)، لأن فلسفة مالك في الكلي المُشكِّك إلحاق الوسط بالأدنى لا بالأعلى فألحق الغرر الوسط باليسير، فأجاز البيع على الوصف والمغيّبات ومقولة ابن العربي ( الخبر كالنظر) خلافا للشافعي.

فإذا لم يكن هذا غررا وجهالة فما المقاس عندكم؟ وما الضابط لديكم؟

قالوا: كون السكن مؤجلاً هذا كراء في الذمة ولا يلزم عنه كالىء بكالىء، هنا قد أكون غير عارف بمفهوم الدَّينِ، كيف بشيء يتقرر في الذّمة غير معيًنٍ لا يكون دينًا وما الدّين إلاّ ما تكون الذمة سُكنَاه. ولقد تقرّر في القواعد قولهم ( المعيّنَاتُ لا تقبلها الذّمم، ومافي الذّمةِ قد يتعيّن).

ومن الخطل في الفهم قالوا تأجيل العوضين ليس دينا بمثله؛ وقصدوا تخفيف العطل فأسندوا الجواز إلى إمام دار الهجرة في مسألة بيعة أهل المدينة، وهذه سبيل غير سابلة وجادة غير مسلوكة.

قالوا الثمن آيل إلى الظهور والانكشاف،وهذه قاعدة ذكرها أهل القواعد ولكن هذا الفرع ليس من مشمولاتها، وخرّجوا عليه مهر المثل وهذه أكبر من أختها، إذ المبتدىء في الفقه (يعلم أن البيع مشاحّة والنكاح مكارمة) فهيهات هيهات العقيق ومن به.

ثم إن مهر المثل فرضه تبعا لا ابتداء؛ لأنه تصحيح وتلاف لخلل واقع أو متوقع وإلا فلا.

قالو الشرط الجزائي وهو عقوبة بالمال لا فيه، وبين الأمرين حكاية اتفاق المنع عن بعض، هلاّ فرقوا بين المليء الواجد والمعدم المملق لنص الوحي (فنظرة إلى ميسرة)، أليس جعل الناس سواء داء ليس له دواء

قالوا هذا ليس بيعا ولا إجارة فما ومن يكون؟

قاعدة مالك في جواز اجتماع البيع والإجارة معلومة لمن قصد الاتباع الحق.

والأغرب مقولة أن الشرط الجعلي لا يضر قياسا على شرط الرهن ونحوه بداعي أن الشرط يخدم ولا يخرم، كيف… وأصل البيع وثمرته تمام الملك والتصرف وهذا غائب في العقد أزو مشوب، أما التخريج على حبس السلعة في الثمن فغير مخلّص.

وأخيرا وليس آخرا قاعدة الأصل في المعاملات الحلّ والجواز لكن التعويل على مطلق الأصل مع قيام العارض الناهض والمناقض المعتبر يُحتِّم الرجوع عنه أو التوقفَ على الأقل والوقف قولٌ وكلامٌ عند أهل الأصول، لأنه فرع التصوّر.

وآخر المطايا الضرورة أو الحاجة وهذا زادٌ من لا زاد له،

لكن أليس جديرا بالموقّع عن الله أن يخلع جبة التسويغ آيبًا إلى ما هيأه مولاه له وهو التقريرُ والبيان وجعل الشرع حاكما ويجعل رايته (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله)

ومما لا ريب فيه أنّ الجهات المعنية قصدُها إسعاف الرعية بما يحقق الرعاية، فالواجب قبل الحكم والإفتاء الدعوة إلى التحاكم إلى الفقه وأصوله لا سيما مذهبنا المالكي ففيه البغية والبلغة والغاية، ورحم الله العلامة ابن قيم إذ يقول « الفتوى معرفة الواجب في الواقع)

كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه حسوني بوبكر بن العيد رحمة الله عليه