الاحتكامِ في إحالةِ الأحكامِ

منهجُ الاحتكامِ في إحالةِ الأحكامِ:

اعلم بأن الأحكام الشرعية تُفهم على مقتضى الحقائق الشرعية ثم العرفية ثم اللغوية، ذاك أن الله تعبّدنا بالاحتكام إلى شرعه الماثل في تشريعاته المنصوصة و المستنبطة، إذ الحكم الشرعي يُقتنص من منطوق النصّ ومفهومِه واقتضائِه وإشارتِه وكذا معقولِه، ومُراد الله امتثالُ أحكامه على وفق المراد، ودون تحقيق هذا المقصد منهجا فقهيا وصنعة أصولية على ضفافها رعي الصلاح ودرء الفساد الواقع والمتوقع.

ما يراد بيانه في هذا المقام مسلكٌ مهم درَج عليه فُحول المتشرّعة، حاصلُه أنّ الحُكم عند إجراءه وإيقاعِه يُنظر هل جاء في الشرع ما يدل عليه شرحا واحدا فيُوقف عنده ؟ ومن شواهده العبادات والشعائر، يَدلّ على هذا قول المعصوم ﷺ “خُذُوا عني مَناسِكَكم” وقوله ﷺ “صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي”، ويُخرّج على هذا زكاة الفطر، فالشّرع حدّ ووقّت المُخرج والمقدار، فالقيمة افتياتٌ على الشّرع، والتّعويل على المصلحة تشويش ووهْم، لأن القيمة إحالةٌ على تقدير بشري والمشرّع أبان، وهل بعد بيان الشرع بيان ؟
الحاصل إذا جاء عن الشرع بيان وتوقيت فالعدول عنه تشهٍّ وتحكُّم.

ولمّا أراد الشّرع الإحالة على تقدير الناس أطلق ولم يَحُدّ، شاهدُه ” لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍۢ مِّن سَعَتِهِۦ ۖ “

ومن الإيرادات القوية على المالكية عند استدلالِهم بحمْل الطهارة في جلد الميته على اللغة في حديث ” إذا دُبِغ الإهابُ فقد طهُر”، بأنّ المعصوم ﷺ قد جاء لبيان الشرع لا اللّغويات، وكذا عند قوله ﷺ “إنّى صَائِمٌ” على الصّوم اللغوي.

وأما إذا لم يَرِد من الشّرع البيان فالتّحاكم إلى العُرْف، ومن المُثُل ضبط الحوز والحرز وما يدخل في المبيع عند الإطلاق وما لا يدخل.

فإنْ عُدم البيان الشّرعي والعُرفي فالعزْوُ إلى مُقتضى الوضع اللّغوي، مثل حقيقة الرّضاع النّاشر للحرمة، فالمالكية عوّلوا على اللّغة أي مطلق وصول لبن إلى الجوف، والخِلاف في الوجور والسعوط هل يُعد في اللغة رضاعا أم يحال على العرف أو الشرع يشير إليه من طرف خفيّ، خلافٌ بين النّظار.

الحاصل فهم الأحكام يكون على مقتضى الشرع أولا ثم العُرف ثانيا ثم اللغة أخيرا.

ومن أراد أن يُفسح الخُطا ويُوسّع المدارك في هذا المقام فليُدمن النظر في ما جادت به قريحة الإمامَيْن المُحقّقَيْن ابن تيمية وابن دقيق العيد، فكثيرا ما يُحيل شيخ الإسلام على العُرف والوضع عند فقد السند الشرعي، ومن الشواهد القصر في السفر، عالج الأدلة وخلَص إلى القول بأنه صحيح غير صريح وصريح غير صحيح، فناط الحُكم بالعرف مسافة ومدة.

كتبه الفقير إلى عفو ربه بوبكر حسوني.